فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

{هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ} {هنالك} ظرف مكان أي: في ذلك الموقف والمقام المقتضي للحيرة والدهش.
وقيل: هو إشارة إلى الوقت، استعير ظرف المكان للزمان أي: في ذلك الوقت.
وقرأ الإخوان وزيد بن علي: {تتلوا} بتاءين أي: تتبع وتطلب ما أسلفت من أعمالها، قاله السدي.
ومنه قول الشاعر:
إن المريب يتبع المريبا ** كما رأيت الذيب يتلو الذيبا

قيل: ويصح أن يكون من التلاوة وهي القراءة أي: تقرأ كتبها التي تدفع إليها.
وقرأ باقي السبعة: {تبلوا} بالتاء والباء أي: تختبر ما أسلفت من العمل فتعرف كيف هو أقبيح أم حسن، أنافع أم ضار، أمقبول أم مردود؟ كما يتعرف الرجل الشيء باختباره.
وروي عن عاصم: {نبلوا} بنون وباء أي: نختبر.
وكل نفس بالنصب، و{ما أسلفت} بدل من {كل نفس}، أو منصوب على إسقاط الخافض أي: ما أسلفت.
أو يكون نبلوا من البلاء وهو العذاب أي: نصيب كل نفس عاصية بالبلاء بسبب ما أسلفت من العمل المسيء.
وعن الحسن تبلوا تتسلم.
وعن الكلبي: تعلم.
وقيل: تذوق.
وقرأ يحيى بن وثاب: {وردوا} بكسر الراء، لمَّا سكن للإدغام نقل حركة الدال إلى حركة الراء بعد حذف حركتها.
ومعنى إلى الله إلى عقابه.
وقيل: إلى موضع جزائه مولاهم الحق، لا ما زعموه من أصنامهم، إذ هو المتولي حسابهم.
فهو مولاهم في الملك والإحاطة، لا في النصر والرحمة.
وقرئ الحق بالنصب على المدح نحو: الحمد لله أهل الحمد.
وقال الزمخشري: كقولك هذا عبد الله الحق لا الباطل، على تأكيد قوله: {ردوا إلى الله} انتهى.
وقال أبو عبد الله الرازي: {وردوا إلى الله}، جعلوا ملجأين إلى الإقرار بالإلهية بعد أن كانوا في الدنيا يعبدون غير الله، ولذلك قال: {مولاهم الحق}.
وضل عنهم أي: بطل وذهب ما كانوا يفترونه من الكذب، أو من دعواهم أنّ أصنامهم شركاء لله شافعون لهم عنده. اهـ.

.قال أبو السعود:

{هُنَالِكَ} أي في ذلك المقام الدهِش، أو في ذلك الوقت على استعارة ظرفِ المكان للزمان {تبلو} أي تختبر وتذوق {تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ} مؤمنةً كانت أو كافرةً سعيدةً أو شقية {مَّا أَسْلَفَتْ} من العمل وتعاينه بكُنهه مستتبِعًا لآثاره من نفع أوضُرَ وخيرٍ أو شر، وأما ما علِمتْ من حالها من حين الموتِ والابتلاءِ بالعذاب في البرزخ فأمرٌ مجملٌ وقرئ نبلو بنونِ العظمةِ ونصبِ كلُّ وإبدالِ ما منه أي نعاملها معاملةَ من يبلوها ويتعرّفُ أحوالَها من السعادة والشقاوةِ باختبار ما أسلفت من العمل، ويجوزُ أن يُراد نُصيب بالبلاء أي العذاب كلَّ نفسٍ عاصيةٍ بسبب ما أسلفت من الشر فيكون ما منصوبةً بنزع الخافضِ وقرئ تتلو أي تتبع لأن عملَها هو الذي يهديها إلى طريق الجنةِ أو إلى طريق النارِ، أو تقرأ في صحيفه أعمالِها ما قدمت من خير أو شر {وَرُدُّواْ} الضمير الذين أشركوا على أنه معطوفٌ على زيلنا وما عطف عليه قوله عز وجل: {هُنَالِكَ تَبْلُواْ} الخ، اعتراضٌ في أثناء الحكايةِ مقرّرٌ لمضمونها {إِلَى الله} أي جزائه وعقابه {مولاهم} ربِّهم {الحق} أي المتحقق الصادِق ربوبيتُه لا ما اتخذوه باطلًا وقرئ الحقَّ بالنصب على المدح كقولهم: الحمدُ لله أهلَ الحمد أو على المصدر المؤكد.
{وَضَلَّ عَنْهُم} وضاع أي ظهر ضَياعُه وضلالُه لا أنه كان قبل ذلك غيرَ ضالٍ، أو ضل في اعتقادهم أيضًا {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} من أن آلهتَهم تشفع لهم أو ما كانوا يدعون أنها آلهةٌ، هذا وجُعل الضميرُ في رُدوا للنفوسِ المدلولِ عليها بكل نفسٍ على أنه معطوفٌ على تبلو وأن العدولَ إلى الماضي للدِلالة على التحقق والتقرر، وأن إيثارَ صيغةِ الجمعِ للإيذان بأن ردّهم إلى الله يكون على طريقة الاجتماعِ لا يلائمه التعرُّض لوصف الحقيةِ في قوله تعالى: {مولاهم الحق} فإنه للتعريض بالمردودين حسبما أشير إليه، ولئن اكتُفيَ فيه بالتعريض ببعضهم أو حُمل (الحقِّ) على معنى العدل في الثواب والعقاب فقوله عز وجل: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} مما لا مجال فيه للتدارك قطعًا، فإن ما فيه من الضمائر الثلاثةِ للمشركين فليزم التفكيكُ حتمًا وتخصيصُ (كلُّ نفس) بالنفوس المشتركةِ مع عموم البلوى للكل يأباه مقامُ تهويلِ المقام والله تعالى أعلم. اهـ.

.قال الألوسي:

{هُنَالِكَ} أي في ذلك المقام الدحض والمكان الدهش وهو مقام الحشر فهنالك باق على أصله وهو الظرفية المكانية، وقيل: إنه استعمل ظرف زمان مجازًا أي في ذلك الوقت {تَبْلُواْ} أي تختبر {كُلُّ نَفْسٍ} مؤمنة كانت أو كافرة {مَّا أَسْلَفَتْ} من العمل فتعاين نفعه وضره أتم معاينة.
وقرأ حمزة والكسائي {تَتْلُو} من التلاوة بمعنى القراءة، والمراد قراءة صحف ما أسلفت، وقيل: إن ذلك كناية عن ظهور الأعمال.
وجوز أن يكون من التلو على معنى أن العمل يتجسم ويظهر فيتبعه صاحبه حتى يرد به الجنة أو النار أو هو تمثيل.
وقرأ عاصم في رواية عنه {نبلو} بالباء الموحدة والنون ونصب {والمؤمنون كُلٌّ} على أن فاعل نبلو ضميره تعالى و{كُلٌّ} مفعوله و{مَا} بدل منه بدل إشتمال، والكلام استعارة تمثيلية أي هنالك نعامل كل نفس معاملة من يبلوها ويتعرف أحوالها من السعادة والشقاوة باختبار ما أسلفت من العمل، ويجوز أن يراد نصيب بالبلاء أي العذاب كل نفس عاصية بسبب ما أسلفت من الشر فتكون ما منصوبة بنزع الخافض وهو الباء السببية.
{وَرُدُّواْ إِلَى الله} عطف على {زيلنا} [يونس: 28] والضمير {للذين أشركوا} [يونس: 28] وما في البين اعتراض في أثناء الحكاية مقرر لمضمونها، والمعنى ردوا إلى جزائه وعقابه أو إلى موضع ذلك، فالرد ءما معنوي أو حسي.
وقال الإمام: المعنى جعلوا ملجئين إلى الإقرار بأولهيته سبحانه وتعالى: {مولاهم} أي ربهم {الحق} أي المتحقق الصادق في ربوبيته لا ما اتخذوه ربا باطلا.
وقرئ {الحق} بالنصب على المدح، والمراد به الله تعالى وهو من أسمائه سبحانه أو على المصدر المؤكد والمراد به ما يقابل الباطل، ولا منافاة بين هذه الآية وقوله سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّ الله مَوْلَى الذين ءامَنُواْ وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُمْ} [محمد: 11] لاختلاف معنى المولى فيهما.
وأخرج أبو الشيخ عن السدى أن الأولى منسوخة بالثانية ولا يخفى ما فيه {وَضَلَّ} أي ضاع وذهب {عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} من أن آلهتهم تشفع لهم أو ما كانوا يدعون أنها شركاء لله عز وجل، و{مَا} يحتمل أن تكون موصولة وأن تكون مصدرية والجملة معطوفة على قوله سبحانه: {رُدُّواْ} ومن الناس من جعلها عطفًا على {زيلنا} [يونس: 28] وجملة ردو معطوفة على جملة تبلو الخ داخلة في الاعتراض وضمير الجمع للنفوس المدلول عليها بكل نفس، والعدول إلى الماضي للدلالة على التحقق والتقرر، وإيثار صيغة الجمع للإيذان بأن ردهم إليه سبحانه يكون على طريق الاجتماع ومذا ذكرناه أولى لفظًا ومعنى.
وتعقب شيخ الإسلام جعل الضمير للنفوس وعطف {رُدُّواْ} على {تبلو} الخ بأنه لا يلائمه التعرض لوصف الحقية في قوله سبحانه: {الله مولاهم الحق} فإنه للتعريض بالمردودين ثم قال: ولئن اكتفى فيه بالتعريض ببعضهم أو حمل {الحق} على معنى العدل في الثواب والعقاب أي مع تفسير المولى بمتولي الأمور فقوله سبحانه: {وَضَلَّ} الخ مما لا مجال فيه للتدارك قطعًا فإن ما فيه من الضمائر الثلاثة للمشركين فيلزم التفكيك حتمًا، وتخصيص كل نفس بالنفوس المشركة مع عموم البلوي للكل يأباه مقام تهويل المقام انتهى، والظاهر أنه اعتبر عطف {وَضَلَّ عَنْهُم} الخ على {رُدُّواْ} مع رجوع ضميره للنفوس وهو غير ما ذكرناه فلا تغفل. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ} تذييل وفذلكة للجمل السابقة من قوله: {والله يدعو إلى دار السلام} [يونس: 25] إلى هنا.
وهو اعتراض بين الجمل المتعاطفة.
والإشارة إلى المكان الذي أنبأ عنه قوله: {نَحْشرهم} [يونس: 28] أي في ذلك المكان الذي نحشرهم فيه.
واسم الإشارة في محل نصب على الظرفية.
وعامله {تبلو}، وقدم هذا الظرف للاهتمام به لأن الغرض الأهم من الكلام لعظم ما يقع فيه.
و{تبلو} تختبر، وهو هنا كناية عن التحقق وعلم اليقين.
و{أسلفت} قدّمتْ، أي عملًا أسلفته.
والمعنى أنها تختبر حالته وثمرته فتعرف ما هو حسن ونافع وما هو قبيح وضار إذ قد وضح لهم ما يفضي إلى النعيم بصاحبه، وضدُه.
وقرأ الجمهور {تبلو} بموحدة بعد المثناة الفوقية.
وقرأه حمزة والكسائي وخلف بمثناة فوقية بعد المثناة الأولى على أنه من التلو وهو المتابعة، أي تتبع كل نفس ما قدمته من عمل فيسوقها إلى الجنة أو إلى النار.
يجوز أن تكون معطوفة على جملة: {هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت} فتكون من تمام التذييل، ويكون ضمير {ردوا} عائدًا إلى {كل نفس}.
ويجوز أن تكون معطوفة على قوله و{يوم نحشرهم جميعًا} [يونس: 28] الآية فلا تتصل بالتذييل، أي ونردهم إلينا، ويكون ضمير {ردوا} عائدًا إلى الذين أشركوا خاصة.
والمعنى تحقق عندهم الحشر الذي كانوا ينكرونه.
ويناسب هذا المعنى قوله: {مولاهم الحق} فإن فيه إشعارًا بالتورك عليهم بإبطال مواليهم الباطلة.
والرد: الإرجاع.
والإرجاع إلى الله الإرجاع إلى تصرفه بالجزاء على ما يرضيه وما لا يرضيه وقد كانوا من قبل حين كانوا في الحياة الدنيا ممهلين غير مجازين.
والمولى: السيد، لأن بينه وبين عبده ولاء عهد الملك.
ويطلق على متولي أمور غيره وموفر شؤونه.
والحقّ: الموافق للواقع والصدق، أي ردوا إلى الاله الحق دون الباطل.
والوصف بالحق هو وصف المصدر في معنى الحاق، أي الحاق المولوية، أي دون الأولياء الذين زعموهم باطلًا.
{وضل عنهم ما كانوا يفترون}
هذه الجملة مختصه بالمشركين كما هو واضح.
والضلال: الضياع.
و{ما كانوا يفترون} ما كانوا يكذبون من نسبتهم الإلهية إلى الأصنام، فيجوز أن يكون ماصْدق {ما} الموصولة الأصنام، فيكون قد حذف العائد مع حرف الجر بدون أن يجر الموصول بمثل ما جر به العائد والحق جوازه، فالتقدير: ما كانوا يكذبون عليه أو له.
وضلاله: عدم وجوده على الوصف المزعوم له.
ويجوز أن يكون ماصدق {ما} نفس الافتراء، أي الافتراء الذي كانوا يفترونه.
وضلاله: ظهور نَفْيِه وكذبه. اهـ.

.قال الشعراوي:

وقول الحق سبحانه: {هُنَالِكَ} يعني: في هذا الوقت، أو في هذا المكان. والزمان والمكان هما ظَرْفَا الحدث؛ لأن كل فعل يلزم له زمان ومكان، فإن كان الزمان هو الغالب، فيأتي ظرف الزمان، وإذا كان المكان هو الغالب فيأتي ظرف المكان.
وجاءت {هُنَالِكَ} أيضًا في قصة سيدنا زكريا عليه السلام، إذ يقول الحق سبحانه: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} [آل عمران: 38].
أي: في ذلك الوقت الذي قالت فيه مريم رضي الله عنها قولةً أدَّت بها قضية اعتقادية إيمانية لكفيلها، وهو سيدنا زكريا عليه السلام وهو الذي يأتي لها بالطعام، وشاء لها الحق سبحانه وتعالى أن تعلِّمه هي. يقول سبحانه: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا} [آل عمران: 37].
والرزق ما به انتفع، وكان زكريا عليه السلام يكفلها بكل شيء تحتاجه، لكنه فوجئ بوجود رزق لم يَأت هو به؛ بدليل أنه قال: {أنى لَكِ هذا} [آل عمران: 37].
وهذه ملحظية ويقظة الكفيل حين يجد مكفوله يتمتع بما لم يأتِ به. وهذه هي قضية «من أين لك هذا»؟، وهي قضية الكفيل العام للمجتمع حين يرى واحدًا يتمتع بما لا تؤهله له حركته في الحياة، وبذلك يُكشف مختلس الانتفاع بما يخص الغير دون أن يَعرف كافله، ولو أن كافله أصرَّ على معرفة من أين تأتي مصادر دخله؛ لَحَمى المجتمع من الفساد.
وانظر إلى جواب مريم عليها السلام على قول زكريا عليه السلام الذي ذكره رب العزة سبحانه: {أنى لَكِ هذا} [آل عمران: 37].